بقلم الدكتور حسن النبيه

ولدت من جديد من رحم بيتي المدمر

ولدت من جديد من رحم بيتي المدمر

ولدت من جديد من رحم بيتي المدمر

بقلم الدكتور حسن النبيه



منزل د. حسن النبيه بعد تدميره بينما كان بداخله

يمكن الوصول للنسخة الإنجليزية لهذه القصة ولنفس الكاتب وذلك من خلال الرابط

http://mondoweiss.net/2014/09/reborn-destroyed-house

 

أنجبتني أمّي قبل ثلاثة وخمسين عاماً (في الثالث من يوليو سنة 1961)؛ إلا أنني أعتبر الثالث والعشرين من أغسطس لسنة 2014 تاريخ ميلادي الثاني. ففي ذلك اليوم، ذقت الموت بطريقة مروّعة عندما دمرت طائرة حربية إسرائيلية منزلي وأنا بداخله. ولكن حدثت معجزة ربانية وولدت من جديد من بين أنقاض بيتي.

 

شنت إسرائيل عدوانها الأخير على قطاع غزة في السابع من شهر يوليو الماضي. واستمر هذا العدوان 51 يوماً استهدفت فيه الطائرات والدبابات والسفن الحربية الإسرائيلية آلاف المباني المدنية مخلفةً الكثير من الشهداء والجرحى الفلسطينيين. إذ استشهد أكثر من ألفين وجُرح أكثر من أحد عشر ألفاً. وكان جُل هؤلاء من المدنيين. وفي اليوم الثامن والأربعين من هذه الحرب المجنونة، مررت أنا شخصياً بتجربة صادمة ومؤلمة؛ لقد تم استهداف منزلي بينما كنت بداخله.

 

في صبيحة ذلك اليوم الخاص في حياتي، استهدفت طائرات حربية إسرائيلية (إف 16) حوالي ستة بيوت في الحي الذي أسكن فيه وحولتها إلى ركام. ولقد مكث عدد ممن فقدوا بيوتهم بعض الوقت في منزلي قبل أن يتمكنوا من الانتقال لأماكن أخرى. لقد كانت إسرائيل تدمر في قطاع غزة بقسوة شديدة بدون وعي؛ فعلى ما يبدو لم يكن لدى إسرائيل بنك أهداف حقيقي. وبالرغم من أن المنطقة التي يقع فيها بيتي لم تكن منطقة حرب، إلا أنني وأسرتي عايشنا ظروفاُ قاسية مماثلة أثناء العدوان. لكن ما حدث حوالي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم كان صادماُ ومروعاً للغاية.

 

كنت أجلس مع عائلتي (أمي وزوجتي وأبنائي العشرة) نتحدث عن حالة البؤس التي يعيشها جيراننا الذين فقدوا بيوتهم جراء القصف الإسرائيلي. ودعونا لهم ولكافة الفلسطينيين بالخير، ولم يخطر ببال أحدنا أن يكون منزلنا هدفاً لطائرات الغدر الصهيونية. وفجأة رنّ هاتفي الخلوي. لم يكن المتصل أحد معارفي. تفحصت الرقم؛ لقد كان رقماً غريباً، ليس رقماً دولياً أو خلوياً محلياً (جوال). ورغم أنه كان يبدأ بمقدمة الإتصال بمدينة غزة، إلا أن باقي الرقم لم يكن غزياً. وعلى أية حال، لم تكن لدي أي مشكلة في الرد؛ فأنا لا أترفع عن التحدث لكل من يتصل بي. إنني في الواقع أعطي طلابي في المحاضرة الأولى معلومات للتواصل معي مشتملة على رقم هاتفي الخلوي (أنا أعمل في غزة أستاذأً مساعداً لعلم اللغويات وتعليم اللغة الإنجليزية).

 

عندما رددت على الهاتف، سأل المتصل: هل أنت حسن أحمد النبيه؟ أكدت له ذلك، فعرّف نفسه بأنه الكابتن صالح من جيش الدفاع الإسرائيلي، وطلب مني إخلاء منزلي بسرعة حيث سيحدث قصف في المنطقة. فسألته بقلق: هل ستقصفون بيتي؟ فنفى ذلك وقال: نحن لن نقصف بيتك، بل شرق بيتك. وإنتهت المكالمة الهاتفية عند هذا الحد.

 

فكرت ملياً بما سمعته. يحدّ بيتي من الشرق بستان، وليس منزل، بستان مليء بأشجار جميلة من مختلف الفواكه. لقد تفاجأت بخبر أن البستان سيتم قصفه؛ فحسب معرفتي، لايوجد في هذا البستان أي شيء غير شرعي. وعلى أية حال، أبلغت بسرعة رسالة المدعو الكابتن صالح إلى عائلتي والجيران الذين يسكنون بالقرب من منزلي. فقامت زوجتي بمساعدة أمي العجوز المريضة (75 عاماً), وإعتنيت أنا بابنتي المعاقة ياسمين (20 عاماً), وأما أبنائي الكبار فقد تدبروا أمر أشقائهم الأصغر سناً. وفي أقل من خمس دقائق، كنا جميعاً في الشارع.

 

ركبت أمي وزوجتي وأبنائي الصغار وياسمين سيارتي التي كانت متوقفة أمام البيت. وبينما كانت أمي تهمّ بركوب السيارة، قالت بمرارة: لقد أجبرونا على ترك بيتنا حفاة الأقدام قبل 66 عاماً. واحسرتاه! ها هو الأمر يتكرر من جديد الآن! هدأّتُ من روع والدتي وطلبتُ من ابني محمد أن يقود السيارة إلى بيت أحد الأقارب. وقمت أنا وأبنائي الثلاثة كبار السن الآخرون (أحمد ومحمود وطلال) بالجري سريعاً بعيداً عن المكان ووقفنا نراقب من بعيد.

 

ما قالته أمي كلام يتفطر له القلب؛ فلقد عبّرت عن المعاناة المتواصلة للشعب الفلسطيني على مدار ما يقارب سبعة عقود. فهي كانت تسترجع ما حدث لعائلتها في العام 1948 عندما كانت في التاسعة من عمرها. فكما أخبرتنا أمي من قبل، كانت تعيش في قرية الكوفخة والتي تبعد بضعة كيلومترات عن غزة. إذ هاجمت حينذاك قوات إسرائيلية القرية وقامت بتدمير بيت عائلة أمي، وكذلك بيوت أخرى، وأحرقوا جرنهم (مخزن الحنطة). واضطرت أمي وعائلتها للفرار بحياتهم حفاة الأقدام إلى مدينة غزة.

 

كنت أقف عن بعد وأشاهد ماذا سيحدث. وبعد حوالي عشر دقائق من المكالمة التليفونية، رأيت صاروخاً من طراز إف-16 يتجه بسرعة فائقة صوب البستان المجاور لمنزلي, وأعقب ذلك إنفجار شديد جداً مصحوباً بسحابة كثيفة من الدخان والغبار. ولقد تضررت عدة منازل قريبة جراء هذا القصف من ضمنها منزلي؛ إذ انهار السور الذي يفصل منزلي عن البستان, كما تكسرت بعض النوافذ والأبواب.

 

إنتظرت 15 دقيقة قبل أن أبدأ بالإقتراب من منزلي. ورغم غرابة أن يقدم المرء مبررات لعودته إلى بيته، كانت هناك ستة أسباب على الأقل تبرر قراري بالعودة لبيتي.

(1)  وثقتُ بما قاله المدعو كابتن صالح. لقد وعد بأن يقصف إلى شرق بيتي فقط. وبعد أن تم قصف البستان، ظننت أنه قد أكمل ‘المهمة’.

(2)  كنت متأكداً بأنني لست مطلوباً. فأنا لست منتسباً ولم يسبق لي أن إنتسبت لأي جماعة مسلحة أو حتى سياسية. لقد كرست حياتي للمجال الأكاديمي؛ فأنا أعمل معلّماً منذ ثلاثين عاماً (في المدرسة ومن ثم الجامعة). كما أنني زرت بلداناً مختلفة، من بينها بريطانيا وأمريكا وكندا. ولقد فزت بمنحة دراسية من المجلس البريطاني في جامعة دورام (في 1992), ومنحة  فولبرايت للحصول على درجة الماجستير في علم اللغويات من جامعة كاليفورنيا (1995-1997)، ومنحة برنامج تنمية الكادر الأكاديمي الفلسطيني للحصول على درجة الدكتوراه في مجال تطور اللغة من كلية بوسطن (2007-2010). وفي 2009، فاز مشروع أطروحتي للدكتوراه بمنحة الشيخ نهيان للأطرواحات والذي أشرفت عليه مؤسسة البحث الدولية لتعليم اللغة الإنجليزية (TIRF).

(3)  كان جيراني في نفس الشارع الذي أسكن فيه قد عادوا إلى بيوتهم.

(4)  خرجنا من منزلنا على عجل وتركنا بداخله مقتنياتنا الثمينة من نقود وأجهزة حاسوب نقالة ووثائق رسمية.


د. حسن النبيه يحصل على درجة الدكتوراه من الولايات المتحدة

(5)  استدعى انهيار السور الذي يفصل بيتي عن البستان نتيجة للإنفجار ضرورة قفل أبواب المنزل الداخلية.

 

(6)  كنت أرتدي ملابساً بعيدة جداً عن الرسمية (فانيلة وشورت) لم يسبق لي أن ارتديت مثلها خارج المنزل. لذا فكرت بالحصول على ملابس أكثر رسمية.

 

عندما اقتربت من منزلي, كانت هناك كومة كبيرة من الطوب والطين تغلق الممر الموصل للمدخل الرئيسي للمنزل، لذا توجهت للطابق الأول من خلال فناء البيت. وما إن دخلت الطابق الأول، سمعت إنفجاراً قوياً. وتأكدت أن القصف هذه المرة استهدف منزلي، وليس البستان. ارتجت الأرض تحت قدميّ واهتز البيت كله بشده. قمتُ مباشرة وبدون تفكير بوضع يديّ على أذنيّ وهبطتُ القرفصاء. إلا أن قوة الإنفجار رمت بي إلى مدخل غرفة الجلوس. بدأ الكثير من الحجارة الصغيرة والرمال الحارقة بالسقوط عليّ. وأصبح المكان حاراً جداُ وتوجعت كثيراً, خصوصاً في منطقة الوجه والذراعين والساقين. وفي خلال بضع ثواني ملأ دخان كثيف المكان وتحول كل شيء إلى سواد. وعلاوة على ذلك، كان هناك لسع شديد في عينيّ جراء ما دخل فيهما من الرمال وقطع الزجاج الصغيرة، خاصة العين اليمنى. وأصعب ما في الأمر أن المكان أصبح خانقاً؛ فتقريباً لم يكن هناك هواء للتنفس. وانتابني سعال شديد وأيقنت أنني سأموت لا محالة. ولشعوري بالاختناق وقربي من الموت, أخذت أردد الشهادتين.

 

وعلى الرغم من ذلك، جال بخاطري أنه لا بد أن أفعل شيئاً لعلي أتخلص مما كنت أقاسيه. فزحفت قليلاً فوق الركام أملاً بالحصول على أية مساعدة. وكان المكان ظلاماً دامساً لا يُرى فيه أي شئ. وفجأة سمعت صوتاً يقول: أبي! أبي! كان ذلك صوت ابني طلال. وبصوت ضعيف يختلطه السعال قلت: نعم! لكن بدا على طلال أنه لم يسمعني ولم يكن قادراً على رؤيتي. ورغم عتمة المكان والألم الحاد في عينيّ، حاولت النظر حولي. وفجأة رأيت من زاوية عيني اليسرى ضوءاً خافتاً. لقد بدا بأنّ طلال كان يومض هاتفه الخلوي بحثاً عني. وبطريقة تكاد لا تصدق مددت يدي وأمسكت بمصدر الضوء؛ وإذا بها يدّ ابني طلال الذي ساعدني بسرعة للتحرك بضع خطوات خارج الشقّة إلى فناء المنزل، وأخذ يصرخ بفرح وانفعال شديدين: أبي مازال حياً! أبي مازال حياً!

أسرع ولداي أحمد ومحمود وبعض الجيران للمساعدة, وتم نقلي إلى الشارع الرئيسي. وفي الطّريق، أحسست بأبنائي يقبّلونني؛ فلقد كانوا مبتهجين كثيراً لنجاتي. (وعلمت فيما بعد أنّ أبنائي الثلاثة أنفسهم كانوا قد أصيبوا جراء تطاير الحجارة إثر الإنفجار؛ لقد أنقذوا حياتي بكل شجاعة رغم جراحهم التي كانت تنزف).

 


د. حسن عند وصوله إلى مستشفى الشفاء بغزة

قدّم لي أحد جيراني بعض الماء وجلابية لأرتديها. وخلال بضع دقائق وصلت سيارة إسعاف. وفي الطريق إلى المستشفى، تم تقديم بعض الإسعافات الأولية لي. وعندما وصلت مستشفى الشفاء (المستشفى الرئيسي في غزة) تمت معالجة الجروح والحروق في جميع أنحاء جسمي. وبعد ذلك تم نقلي لمستشفى العيون لمداواة الإصابة في العينين. وبسبب دخول الكثير من الحالات للمستشفى في ذلك اليوم, وحيث أن حالتي وصفت بالمستقرة, فقد تقرر إخراجي من المستشفى. (سبق أن تم التعامل مع إصابات أبنائي وتم إخراجهم من المستشفى).

 

 

ولقد مكثتُ أنا وأسرتي حوالي شهراً في منزل أحد الأقارب قبل أن أتمكن من استئجار شقة صغيرة نعيش فيها الآن. إنه يصعب علينا جداً تصديق أن بيتنا الواسع الجميل قد تم تدميره. لكن نحمد الله بأننا ما زلنا على قيد الحياة.

 

تثير تجربتي المؤلمة في 23 أغسطس 2014 بعض الأسئلة المهمة:

 لماذا كذب عليّ المدعو الكابتن صالح؟ ألم يقل بأنهم لن يستهدفوا بيتي؟ مع ذلك، قفد تم تدمير منزلي بينما كنت بداخله؛ ولقد نجوت بأعجوبة.

 ألا يُعد فقدان الإنسان لبيته أمراً غاية في الصعوبة؟ لقد عملت بجدّ لسنوات كثيرة أملاً في العيش مع عائلتي الكبيرة في بيت أمتلكه. ولم يتحقق هذا الحلم سوى في 2005. ولقد كان لأسرتي وأمي التي تعيش معنا منذ وفاة والدي في 2006، كان لدينا الكثير من الذكريات الجميلة في هذا البيت. ومن المناسبات التي لاتنسى إحتفالنا بعيد ميلاد والدتي الخامس والسبعين والذي كان في يناير الماضي؛ لقد كانت مناسبة يملؤها البهجة والسرور (انظر الصورة!). بالإضافة إلي ذلك، لم أدخر جهداً في تربية أبنائي تربية حسنة وتعليمهم تعليماً جيداً. فقد التحق أربعة من أبنائي بالجامعة لدراسة تكنولوجيا المعلومات والإدارة والقانون والصحافة. واستعداداً لزواجهم، فقد قمت بإضافة طابقين إلى منزلي في العام الماضي. أليس تدمير منزلنا من قبل الجيش الإسرائيلي معناه قتل الكثير من أحلامنا التي كنا نتوق إلى تحقيقها؟


الإحتفال بعيد الميلاد الخامس والسبعين
لوالدة د. حسن في يناير الماضي

 

  كم من الوقت والمال سأحتاج لإعادة بناء منزلي؟ لقد كلفني بناء هذا البيت الكثير من المال, وخاصة في ظل الحصار الإسرائيلي على غزة. كم من الوقت سيمر حتى أسدد ديوني الكبيرة جراء ذلك؟

 لماذا تفرض إسرائيل حصاراً قاسياً على قطاع غزة يستمر منذ ثمان سنوات؟ لقد توفي آلاف الفلسطينيين المرضى لعدم تمكنهم من عبور الحدود لتلقي العلاج، وآلاف آخرون لم يستطيعوا مواصلة تعليمهم في الخارج لنفس السبب. في 2007، حاولت أنا شخصياً خمس مرات مغادرة غزة للسفر للولايات المتحدة, وكنت على وشك أن أفقد منحتي لبرنامج الدكتوراه لأنني تغيبت عن الفصل الدراسي الأول في كلية بوسطن.

 لماذا شنت إسرائيل ثلاثة حروب شرسة على قطاع غزة في أقل من ست سنوات؟ هل يلام سكان غزة على تمردهم على الواقع الذي يعيشونه؟ إن قطاع غزة عبارة عن سجن كبير تديره إسرائيل منذ 2006. إن ما يتمناه الغزيون, والفلسطينيون بوجه عام، هو العيش كغيرهم من سكان العالم في حرية وسلام وكرامة.

 هل بدأ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي عند تأسيس حماس والجهاد في 1987؟ أو الجبهة الديمقراطية في 1969؟ أو الجبهة الشعبية في 1967؟ أو فتح في 1965؟ أو في وقت أقدم بكثير (في 1948)؟؟

 أليس الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو الإحتلال الوحيد في العالم في القرن الحادي والعشرون؟

 ألا يستطيع العالم رؤية وحشية إسرائيل المتواصلة ضدّ الفلسطينيين؟

ألا يدرك دافعو الضرائب الأمريكان أن ما ترتكبه إسرائيل من جرائم فظيعة ضد الفلسطينيين يتم بأسلحة أمريكية تدميرية تُرسل لإسرائيل مجاناً؟

ألا يستطيع المجتمع الدولي، وخصوصاً الحكومة الأمريكية، القيام بجهود مناسبة لإنهاء معاناة الفلسطينيين على مدار السنوات الـ66 الماضية؟ ألا يساعد ذلك على خلق الإستقرار والسلام لكل شعوب المنطقة؟

 

السيرة الذاتية للكاتب

الدكتور حسن النبيه معلّم وباحث فلسطيني في مجال اللغة الإنجليزية. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة عين شمس بمصر, ودرجة الماجستير في علم اللغويات من جامعة كاليفورنيا بفريزنو، ودرجة الدكتوراه في تطور اللغة من كلية بوسطن. وهو يقوم بتدريس مساقات في علم اللغويات وتعليم اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية في الجامعة الإسلامية بغزة-فلسطين منذ 1997. وقبل ذلك، عمل أيضاً معلّماً للغة الإنجليزية في مدارس بغزة لأحد عشر عاماً.

x