المصدر: القدس العربي
بقلم: د. وليد أحمد السيد
في الوقت الذي تقصف فيه طائرات ودبابات الاحتلال الصهيونية المدنيين في غزة، تتحرك معها ماكينة الدعاية والإعلام اليهودية في العالم قاطبة مطلقة عشرات المزاعم والأكاذيب بخصوص الشعب الفلسطيني بشكل عام وشعب غزة بشكل خاص في محاولات لتحييده عن دوائر الثقافة والإبداع وربط مقاومته للاحتلال الصهيوني بالإرهاب. وفي معرض وضع النقاط على حروفها يصدر تقرير سنوي للأمم المتحدة يسمى تقرير التنمية الانسانية والذي يشمل أكثر من 177 دولة منها الأراضي الفلسطينية المحتلة والذي نستقي منه بعض الحقائق فيما يخص شعب مجاهد صابر يرزح تحت أبشع صور التنكيل والحصار والجوع. وفي هذه المساحة سنبرز أهم معالم التنمية والثقافة مع عرض لإبداعات المبدعين الفلسطينيين في غزة ـ الأكاديميين بالجامعة الإسلامية تحديدا ـ في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها القطاع، مساهمة متواضعة منا في مناصرتهم ومؤازرتهم بما يستطيع به القلم وتجود به الكلمة والقلب يدمى لجراحاتهم التي تسيل.
وقد كان من قبيل المصادفة المدهشة أن يوم الثالث من كانون الثاني (يناير) للعام الحالي الذي انطلقت في تمام الساعة الواحدة وثلاث دقائق منه مسيرة سلمية، وصاخبة، كان هو نفس اليوم الذي وصلتني فيه على صندوق بريدي بلندن مجموعة من المطبوعات الأكاديمية للجامعة الإسلامية بغزة من الزملاء والأصدقاء في كلية الهندسة الدكتور عدنان أنشاصي والدكتور فريد القيق. في ذلك اليوم خرجت وعائلتي الصغيرة، سارة وموسى، صباحا لمؤازرة الأبرياء في غزة ولم نعد إلا والليل قد بدأ يرخي سدوله على لندن وضواحيها. عدنا وقد نال منا التعب نصيبا لنستعد لليلة باردة من شهر كانون الثاني (يناير) فيما يدور بخلدنا آلاف العائلات الغزية في ظروف تضافرت فيها عوامل البرد والقصف والحصار والجوع وظلمات الليل البهيم التي كانت تنيرها نيران القصف البربري لماكينة القتل الصهيونية لشعب محاصر مجوع وأعزل. في صندوق البريد لامست يداي بطاقة مسبقة الطباعة خطت بها يدا ساعي البريد البريطاني بضع كلمات لتعلمني بوجود طرد كي أذهب لاستلامه. ودار بصري في البطاقة الصغيرة ونزلت عيناي لأسفل الصفحة لأجد المرسل هو الجامعة الإسلامية (بغزة)! كان علي الإنتظار يومين كاملين قبل الحصول على الطرد المنتظر مرة أخرى. فضضته لتطالعني مجموعة من المطبوعات الخاصة بالجامعة والتي أرسلها لي الزملاء الأكاديميون بالجامعة الإسلامية، والتي كانت ولا بد أرسلت قبل بدء العدوان على غزة إذ كان الطرد مفتوحا أكثر من مرة عبر الحدود والحواجز والتفتيشات المتعددة التي مر بها حتى استقر بين يدي، مما يظهر طول الوقت الذي استغرقه للتنقل، كما يظهر مدى الرعب الذي تعيشه الجهات المختلفة والتي ما عادت تستطيع التمييز بين النشاطات الأكاديمية الصرفة وغيرها. عدم التمييز هذا لم يكن يقتصر على المطبوعات الأكاديمية بل شمل، كما برهن العدوان البربري بقصفه مقر الجامعة الإسلامية بغزة، المؤسسات الأكاديمية ومنابر الإبداع لتفضح حقيقة هي أن السياسة الصهيونية هي همجية تهدف لتدمير كل منابر التفوق والإبداع الفلسطيني واجتثاث الحضارة قبل الشعب.
المطبوعات التي وصلتني كانت بها مجموعات من المفاجآت الأكاديمية السارة التي تستحق أن تعلن للعالم وبالذات في هذه الأيام، ففيها تسطر معالم الإبداع الفلسطيني الأكاديمي وتميز البحث العلمي بأسمى معانيه. وسأكتفي بإعطاء لمحة سريعة عن ملامح التميز في كلية الهندسة وحدها مما يضاهي بل ويتفوق على بعض مثيلاتها في دول الأقاليم المجاورة. فكلية الهندسة بالجامعة الإسلامية بغزة بها 6 برتبة أستاذ، و10 برتبة أستاذ مشارك، و27 برتبة أستاذ مساعد، و16 برتبة مدرس. كلهم يمثلون العمل المتصل الدؤوب والبحث العلمي الرصين مما أكسب الجامعة تميزا إقليميا وعالميا بحصد العديد من مدرسيها وطلابها جوائز وتقديرات مهمة نذكر منها (مما وصلني في كتيب كلية الهندسة)، وتقديرا لجهود الكفاح الفلسطيني تحت ظروف تعفي من مجرد التفكير في الإبداع، وليسمع العالم وليتسامع عن إبداعات المبدعين في غزة الحرة! فكلية الهندسة بالجامعة الإسلامية لم تكن أبدا كائنا أكاديميا محليا متقوقعا رغم الحصار، بل هي عضو في اتحاد كليات الهندسة للدول الإسلامية، وعضو في شبكة كليات الهندسة في حوض البحر الأبيض المتوسط (REMI) ، وعضو في شبكة جامعات عمارة الفراغات المفتوحة في الاتحاد الأوروبي (Le-Notre Thematic Network in Landscape Architecture)، وقد عمل القائمون عليها وتحت رئاسة الدكتور كمالين شعث على مد صلاتها بالعالم من خلال المؤتمرات والندوات والعضويات المختلفة، لتغدو منبرا علميا متميزا رغم ما يدور في الأراضي المحتلة والقطاع من محاولات التهميش والحصار ـ وربما هذا يفسر الضربات الجوية الصهيونية لمقرها قبل أيام.
في مجال تميز الأساتذة وهيئة التدريس حصل الدكتور أسامة العيسوي على رتبة أستاذ مشارك قبل شهرين ـ أثناء الحصار الجائر- من خلال مجموعة من الأبحاث المهمة التي تقدم بها في مجال الحفاظ المعماري، وخلال قيامه بواجباته كوزير الثقافة والمواصلات ودأب على تأسيس مركز عمارة التراث بالجامعة الإسلامية ومتحف للتراث في مواجهة موجات التهويد والتدمير بآلة الصهيونية العمياء. كل هذا تحت ظروف الحصار المضروب على مقومات الحياة الأساسية بغزة. وحصل الدكتور صلاح الآغا على براءة اختراع في الهندسة تم تسجليه في المكتب الأمريكي لبراءات الإختراع. وحصل الأستاذ الدكتور محمد عبد العاطي على جائزة حجاوي للعلوم التطبيقية، كما حصل الأستاذ الدكتور عدنان أنشاصي على جائزة البحث العلمي للعلوم التطبيقية والهندسية. أما الدكتور عبد المجيد نصار فحصل على جائزة كريم رضا سعيد ببريطانيا. وحصل الدكتور محمد عودة على جائزة التصميم الأكثر إبداعا من جامعة الإمارات العربية المتحدة. أما الدكتور محمد توفيق حسين فأدرج ضمن (Whos who among teachers Americas) من مؤسسة (Paul Krouse Publisher) بالولايات المتحدة الأمريكية. وحصل الأستاذ الدكتور شفيق جندية على جائزة كيرشوف من مؤسسة كيرشوف بألمانيا.
وعلى الرغم من أن تقرير الأمم المتحدة يفيد بأن هناك 774 مليون أمي في العالم كله منهم 64 نساء، إلا أن إبداعات المهندسات في الجامعة الإسلامية بغزة تثبت للمرأة العربية المسلمة والغزية مكانة متميزة في العلم والإبداع وتفوقا على بعض زملائها كباحثة مبدعة. وجوائز الطلبة المنشورة في كتيب الجامعة الذي بين يدي كاتب هذه السطور يبين أن هناك 11 مهندسة نلن جوائز وتقديرات عالمية وإقليمية مقابل 6 مهندسين زملاء لهن، نذكرهم جميعا بالاسم في هذه المساحة المحدودة تقديرا وعرفانا لجهودهم تحت ظروف حصار غزة وهم صامدون تحت أزيز الطائرات الاسرائيلية ـ الأمريكية، أدعياء التقدم والعلم والحضارة، وتحت القصف البربري الهمجي للاحتلال الصهيوني.
فقد حصلت المهندسات وسام أبو لبدة وليلى رمضان وهبة البهبهاني وهيا عاشور وهنادي نايف وإخلاص أبو عودة وهنادي حمد ومرام الجاروشة وبسمة الحداد على جائزة زهير حجاوي للتميز الهندسي من الجامعة العربية الأمريكية بفلسطين بين الأعوام 2004 ـ 2005. أما المهندسة راوية أبو عمرو والمهندسة نوال إسماعيل فحصلتا على جائزة هشام حجاوي للعلوم التطبيقية في العامين 2001 و2005. أما المهندس أحمد الحسني فحصل على جائزة شركة (Google) للبرمجيات في العام 2008، كما حصل المهندس محمود شعث على جائزة أفضل مهندس في العام 2007. وقد حصل كل من المهندسين وائل المدهون وإسماعيل الوحيدي ووسيم شبير ومحمد حرب على جائزة اتحاد مهندسي الكهرباء والحاسوب (IEEE) بأمريكا. هذا فيما يتعلق بالجامعة الإسلامية بغزة، فما هو حال المثقف والتعليم الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفق تقرير الأمم المتحدة للسنة 2008؟
مقياس الأمم المتحدة للتطور الإنساني (Human Development Index) أو (HDI) والذي أعدت تقارير سنوية بشأنه منذ العام 1990 يدرج دول العالم بناء على ثلاثة معاييرهي: أولا ـ الصحة وتوقعات الحياة العمرية عند الولادة للفرد، وثانيا – التعليم ويقاس بنسبة تعليم الأفراد على مقاعد الدراسة في المراحل الأساسية والثانوية والجامعية، وثالثا ـ الرفاه المعيشي ويقاس بتكافؤ مستوى الدخل والقدرة الشرائية للفرد. ورغم أنه مقياس نسبي إذ يتميز بعدم شموليته لمعايير أوسع كالحريات العامة وغيرها، إلا أنه يعطي ترتيبا سنويا تنازليا لموقع كل دولة على هذا المقياس. أنظر (http://hdrstats.undp.org/countries/country_fact_sheets/cty_fs_PSE.html)
التقرير الذي نشر مؤخرا للعام 2007-2008 يدرج فلسطين على هذا المقياس باسم (الأراضي الفلسطينية المحتلة) حيث تحتل المرتبة 106 من 177 دولة مصنفة وبواقع (HDI = 0.731). ولمعرفة ماذا يعني هذا الرقم دعونا نناقشه بتفصيل مع المقارنة مع بقية الدول العربية والعالمية وأوروبا وأمريكا. تحتل أيسلاندة والنرويج قمة القائمة بمقياس تطور أعلى في العالم قاطبة ويساوي (HDI = 0.968) فيما تحتل سراليون المرتبة الأخيرة في العالم بواقع (HDI = 0.336). على مستوى العالم تحتل كندا المرتبة الرابعة (0.961) والسويد وسويسرا المرتبتين السادسة والسابعة (0.956) و(0.955) تباعا، تليها اليابان وهولندا (0.953) ثم فرنسا في المرتبة العاشرة (0.952). أما أمريكا فتحتل المرتبة 12 بواقع (0.951)، وبريطانيا في المرتبة 16 بواقع (0.946). أما ألمانيا فتقدمت على إسرائيل بفارق بسيط في المرتبة 22 وبواقع (0.935) و(0.932) لكل منهما على الترتيب.
على مستوى العالم العربي تتصدرها الكويت في المرتبة 33 من العالم بعد جمهورية التشيك مباشرة وبمقياس (0.891)، تليها عربيا قطر في المرتبة 35 وبمقياس (0.875) ثم الإمارات في المرتبة 39 وبمقياس (0.868) ثم البحرين في المرتبة 41 بمقياس (0.866) تليها ليبيا في المرتبة 56 بمقياس (0.818) ثم سلطنة عمان في المرتبة 58 وبمقياس (0.814). السعودية حلت في المرتبة 61 وبمقياس (0.812) تليها الأردن في المرتبة 86 وبمقياس (0.773) ثم لبنان في المرتبة 88 بمقياس (0.772) ثم تونس في المرتبة 91 بمقياس (0.766) ثم الجزائر في المرتبة 104 بمقياس ( 0.733) حيث تليها فلسطين المحتلة في المرتبة 106 كما أشرنا وبمقياس (0.731) والتي تتقدم على بقية الدول العربية وهي: سورية في المرتبة 108 وبمقياس (0.724) ومصر التي احتلت المرتبة 112 عالميا بمقياس (0.708) والمغرب في المرتبة 126 بمقياس (0.646) والسودان في المرتبة 147 بمقياس (0.526) واليمن في المرتبة 153 بمقياس (0.508).
من الواضح تماما بقراءة الترتيب السابق للعوامل الثلاثة مجتمعة في تحديد مقياس التطور الإنساني في التقرير السنوي للأمم المتحدة أن قاسما مشتركا يجمع الدول المتصدرة عالميا وعربيا وهو مقدار الثراء والرفاه الاقتصادي في تحديد عاملي التوقع العمري عند الولادة والقدرة الشرائية مقارنة بالدخل، وهما خاصيتان قد يتم من خلالهما تفسير وجود العديد من الدول العربية ذات الكثافة السكانية العالية والفقيرة (من حيث الأفراد) نحو نهاية القائمة التي شملها التقرير السنوي. ولتحييد هذين العاملين، وللتركيز على العامل الذي يهمنا وهو التعليم دعونا نلقي مجددا نظرة على الترتيب العربي والعالمي في عامل النسبة المئوية للبالغين المتعلمين للمراحل الأساسية والجامعية بالنسبة للعدد الكلي للسكان لكل دولة.
بقراءة التقرير لسنة 2007 2008 (http://hdrstats.undp.org/indicators/3.html) نلاحظ أن فلسطين المحتلة تصل نسبة التعليم مقارنة بعدد السكان (92.4) وهي نسبة مدهشة تماما بمقارنتها ببقية الدول عالميا وعربيا. فالنسبة تقل قليلا عن إسرائيل (97.1) وهي مدهشة مقارنة بواقع الاحتلال للأراضي الفلسطينية وظروفه القاسية. وتقل كذلك عن كل من إيطاليا (98.4) واليونان (96.0) وسلوفينيا (99.7) والأرجنتين (97.2) وروسيا (99.4) وفنزويلا (93.0) والبرازيل (88.6) وسويسرا (79.6). أما الدول الغربية الكبرى وأمريكا وكندا ولبنان فلم تجر عليها الدراسة! أو تتوفر معلومات للتقرير!!
أما عربيا فتأتي فلسطين المحتلة في المرتبة الثانية بعد الكويت (93.3) فقط، فيما تدرجت النسب المئوية لبقية الدول العربية كالتالي: الأردن (91.1) وقطر (89.0) والإمارات العربية المتحدة (88.7) والبحرين (86.5) وليبيا (84.2) والسعودية (82.9) وسلطنة عمان (81.4) وسورية (80.8) وتونس (74.3) ومصر (71.4) والجزائر (69.9) والسودان (60.9) واليمن (54.1) والمغرب (52.3). ).
وبالرغم من أن هذه القراءة في علم الإحصاء والتمثيل البياني هي قراءة أولية إذ تمت بدلالة النسبة المئوية لكل دولة على حدة، فيما ينبغي أن تتم قراءتها بتمعن أكبر وبدلالة تباين الحجم السكاني بين الدول وبدلالة خط بياني يربط النسب المئوية بالحجم ويعرف في علم الإحصاء البياني بما يسمى (Regreion Line). فمثلا يفضح هذه النسب المئوية وتبايناتها النسب التي تمثلها الهند والصين وهما تمثلان مجتمعتين ثلث سكان العالم حيث تباينت النسب فيها بشكل كبير وهي للهند (61.0) وللصين (90.0)، رغم ضخامة أعداد السكان بالمقارنة ببقية دول العالم – حيث وللطرافة تمثل نسبة المتعلمين بالهند ما مجموع المتعلمين في عدة دول أخرى. لكن وبالرغم من ذلك تظل لهذه القراءة الأولية المنفردة لكل دولة دلالات ومؤشرات قوية على نسبة الثقافة والمثقفين، وهي لها دلالاتها الرمزية وهي الشاهد في هذه المساحة على الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة وتحت ظلال ماكينة التدمير الهمجية الصهيونية التي طالت معاهد العلم والجامعات في غزة. وفضلا عن ذلك فهذه الدراسة للمثقف الفلسطيني تغفل مئات الآلاف من الفلسطينيين في المغترب والمهجر والشتات ممن دأب على طلب العلم وغدا التميز والإبداع طريقه الأوحد لمقارعة نوائب الحياة كي يثبت نفسه على غير أرضه وبين مختلف الجنسيات والأمم والشعوب.