مقال في صحيفة القدس العربي يصف مجلة العمران ومركز عمارة التراث بأنهما رمزان فلسطينيان مضيئان

مقال في صحيفة القدس العربي يصف مجلة العمران ومركز عمارة التراث بأنهما رمزان فلسطينيان مضيئان

 

طالعت صحيفة القدس العربي الصادرة من العاصمة البريطانية “لندن” في عددها الصادر صباح الثلاثاء الثامن عشر من تشرين ثاني/نوفمبر 2008م قراءها وزوار ومتصفحي موقعها الإلكتروني بمقال للدكتور وليد أحمد السيد –من مركز دراسات العمارة والتراث ودار معمار بلندن- تحت عنوان: مجلة “العمران ومركز عمارة التراث.. رمزان فلسطينيان مضيئان رغم كل المحبطات”، وجاء في مقدمة المقال: “قد يمر القلم على مئات المجلات الصادرة في الوطن العربي لكنه يأبى إلا التوقف إجلالاً واحتراماً لهذه المجلة الرائدة، لا لروعة إخراجها ومحتواها فحسب، ولكن تحديداً لظروف إنتاجها حيث تضرب ومن يقف خلفها من الزملاء والزميلات المعماريين في غزة أروع الأمثلة في معنى الحياة والكفاح رغم شح المواد الأساسية للحياة”.

ووصف الدكتور السيد في مقاله مجلة العمران بأنها “رمز فلسطيني للمثابرة والكفاح ورمز مضيء من رموزها الثقافية وتحت أقسى الظروف المحيطة”.

ومضى الدكتور السيد متحدثاً عن مركز عمارة التراث بالجامعة الإسلامية ونعته بأنه “رمز فلسطيني يتجسد في مركز حضاري وفكري”، وتحدث عن اهتمامات المركز، وبدا الدكتور السيد من خلال المقال متابعاً جاداً لأنشطة المركز.

واختتم الدكتور السيد مقاله قائلاً: “هذان رمزان مشرقان للثقافة والكفاح الفلسطيني من الرموز التي لا تأبه لما يحيط بها من إرهاصات، وجب التوقف عندها قليلاً وإعطاؤها بعض ما تستحق من الثناء والذكر في إطار عرفان بقيامهما بدور حضاري قيم”.

وفيما يلي نص المقال كما نشر في صحيفة القدس العربي:

“بصدور العدد التاسع الجديد من مجلةالعمران تدخل هذه المجلة الغراء عامها الثامن منذ انطلاقة عددها الأول في صيف 2000 وهذه المجلة الفصلية هي من إصدارات قسم العمارة بالجامعة الإسلامية بغزة، وتعنى بشؤون العمارة والعمران في فلسطين والوطن العربي. وقد يمر القلم عن مئات المجلات الصادرة في الوطن العربي، لكنه يأبى إلا التوقف إجلالا واحتراما لهذه المجلة الرائدة، لا لروعة إخراجها ومحتواها فحسب، ولكن تحديدا لظروف إنتاجها، حيث تضرب ومن يقف خلفها من الزملاء والزميلات المعماريين في غزة أروع الأمثلة في معنى الحياة والكفاح رغم شح الموارد الأساسية للحياة، فضلا عن ترف التفكير في الإبداع في ظروف عصيبة يمر بها إقليم كامل في فلسطين.وفي إطار متابعتي الدؤوب للمجلة أرسلت بريدا الكترونيا لرئيس تحريرها الصديق الدكتور فريد القيق رئيس قسم العمارة بالجامعة الإسلامية بغزة، فجاءني رد بالاعتذار عن صدورهامتأخرةلشح ورق الطباعة والأحبار! لا يا سيدي الفاضل، نحن أولى بالاعتذار منكم في أوقات عزت فيها مناصرتكم بالمقومات الأساسية للحياة، فضلا عن ورق الكتابة وأحبار المطابع! استميحكم عذرا يا صديقي، فهاماتنا تنحني إجلالا لصمودكم ومثابرتكم على إصدار مجلتكم في ظروف تعفي من مجرد التفكير في دوائر الثقافة والإبداع والفكر، لكنه شعب فلسطين الصابر المثابر، عاش وترعرع بين أكناف العصامية حتى غدا ربيبها، وما يزال يضرب الأمثال في معاني الإبداع والثقافة وهو يئن تحت ضنك الحياة وأبشع صور قسوتها ومرارتها.

كان لي شرف التعرف على زملاء مهنة العمارة بالجامعة الإسلامية بغزة في العام 2005 وسيلة التعارف كانت، وما تزال، هي الإنترنت والبريد الإلكتروني إذ لم أحظ بشرف اللقاء بعد، فأنا من فلسطينيي الشتات.عشت عمرا خارج وطن لم أره ولم تطأ قدماي حبيبات ثرى مدن الرملة مدينة أجدادي أو الخليل وأريحا منشأ أبي وأمي، ولم ترتشف عيناي من وجنتي بهاه، وهامت روحي بوطن لم أره. ويسليني أن اليراع حين أطلقه راسما فإنما يحاكي حنايا المعمار الخالدة في نابلس والقدس ويافا وحيفا وعكا، وإن أطلقته راقما يخط من جمال الحروفية على محاريب الطهر ومنابر الشرف في الأقصى والصخرة المباركة، وإن اطلقت صريره مماحكا أوراق التاريخ الخالدة فبذكرى أو خاطرة وفاء لأحبة كفاح؛ كفاح قلم وفكر، وأي كفاح!

تشرفت بالمشاركة بمقالة في مجلةالعمرانفي عددها السادس في العام 2005 فقد وصلني آنئذ رسالة بالبريد الإلكتروني تدعوني للمجلة من الصديق الدكتور أسامة العيسوي، رئيس تحريرها آنئذ وهو وزير الثقافة اليوم. وفي غمرة انشغالي بمشاريع العمارة والعمران، وكنت يومها بمدينة مسقط، أرسلت للمجلة مقالا حول العمارة العربية الإسلامية والاستشراق.وغابت الأيام وسلا الفكر لوهلة عن هذا اللقاء العابر عبر أثير الإنترنت. وبعيد بضعة شهور استغرقها البريد وصلني على عنواني بلندن طرد أبيض تتربع على وجهه بضعة عشرات من الطوابع الفلسطينية ومعنونا الجامعة الإسلامية بغزة.وفي غمرة مفاجأتي بالطرد غير المتوقع فضضته لأجد ثلاث نسخ من مجلة العمران، ترسل كهدية للكتاب المشاركين كما هي العادة، وبدأت عيناي تلتهم صفحات المجلة بنهم.

مجلةالعمرانهي رمز فلسطيني للمثابرة والكفاح ورمز مضيء من رموزها الثقافية، وتحت أقسى الظروف المحيطة بغياب الجهة التي تتعهد بالرعاية والتشجيع. وربما هي ميزة عامة للثقافة والمثقفين من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، فبغياب الأب الراعي الذي يتبنى أعمال الفكر والثقافة أضحى المفكر والمثقف الفلسطيني في الداخل والخارج يتيما لا أب له.فكما يقال: ‘للنجاح ألف أب (كل يريد أن يدعيه لنفسه) أما الفشل فيتيم لا أب له‘. وقد عشت شعور هذااليتم الثقافيفي غمرة معاناتي قبل عقد من الزمن في البحث عمن يتبنى تمويل رحلة شاقة لدراسة وإعداد أطروحتي للدكتوراه حول العمارة العربية المعاصرة والتراث والحداثة. فمواطنو العالم عموما تلازمهم، وبخاصة المبدعين منهم، لحظات دفء الرعاية الوطنية أو المؤسسية، بينما غدا المثقف الفلسطيني يتيم الرعاية في بحر متلاطم من تراكمات السياسة والنوائب والمحن في محيط من غربة شعب تشظى في أصقاع الأرض بين مهاجر ومتغرب يرجو العودة يوما، فما زال شعور غربة الانتماء يلازم شعبا انفصل عن وطنه فغدا الفراغ يسود الجهات الست. شعور حزين بالانقطاع عن أمنا الأرض فما نحن إلا منها وإليها نتواصل معها بحواسنا ووجداننا وأفئدتنا ومشاعرنا وإن انقطع البث وهمد الإرسال.

وكم دار بخلدي وأنا أجوب حارات لندن ودروبها أن القدر قد شاء أن التقط بضعة أمتار مكعبة متناثرة في هواء لندن، وأن أحرم من نسمات أرض الأنبياء ومهبط الرسالات! وكم كنت أتساءل وأنا أرى مواطني دول العالم يقصدون عواصم الثقافة الأوروبية وجامعاتها: ما هو شعور من له وطن ودولة وحكومة وسيادة؟

وما هو شعور أسلافنا من المسلمين أيام كانت الكوفة وبغداد والإسكندرية حواضر علم وثقافة يحج اليها من كانوا يمشون في الوحل لركبهم آنذاك؟ مشاعر متضاربة تتوارد بين الحين والحين لمن يعيشيتم الوطنوغربته، غربة داخل غربة في رحم غربة.وبالرغم من هذه المشاعر الحزينة المتلاطمة، يغلب أحيانا شعور التحدي لإرهاصات الزمن.ولعل هذا هو سر إبداعاتالجماعات الإثنيةالمشرذمة على مدى التاريخ، فالمحن إنما تشحذ في عمق النفس الإنسانية احتياطياتها المخبوءة من الطاقة لتنتج ما لا تنتجه النفوس التي تعيش مظاهر الدعة السمجة. بل إن الأخيرة، كما علمنا تاريخ ابن خلدون، طالما كانت من أبرز عوامل اندثار الأفراد والشعوب والحضارات والأمم. ومشاعر التحدي واستحضار الطاقات المخبوءة هو حال الأفراد وبعض المؤسسات في غياب الدعم الوطني والحكومي وتحت ظلال التنازعات وتحت قهر الاحتلال والتجويع والحصار. ويعجب المرء أيما عجب لفرد أو مجموعة تلتفت للإبداع في غياب أبسط مقومات الحياة وأساسياتها!

لمجلات العمارةالمدللةماديا مائة ألف أب، أما الجامعة الإسلامية فمجلتهاالعمرانيتيمة لا أب لها، فهي عصامية المبنى والمعنى، وتعكس كفاح أبناء فلسطين من طلاب العمارة وباحثيها في معاهد العلم المحاصرة. بعض مجلات العمارة ترفل في الترف المادي والدعم المؤسسي أما مجلة العمران فيتيمة وغريبة عن كل ذلك، وبرغم هذا فهناك مفارقات تبثها مجلةالعمرانكأحد رموز الكفاح الفكري الفلسطيني وما تحويه من قصص العصامية والتميز لطلبتنا وسهرهم وكدهم، فهي تستعرض نماذج من أعمال طلاب وطالبات قسم العمارة بالجامعة للسنوات المختلفة وتسطر في جبين التاريخ سيرة طلبتنا في الجامعة الإسلامية وقسم العمارة بها والآلية التي تتخلق فيها معالم الإبداع والفكر والفن.ومن سره أن يمتع ناظريه بتجليات إبداعات الطلبة والطالبات في قسم عمارة جامعة غزة فليطالع صفحات مجلةالعمران‘. وكم عجبت لما رأيت من أعمال طلابنا وطالباتنا في هذه المجلة السامقة! وأذكر أنني بحثت عنها على الإنترنت (http://www.iugaza.edu.ps/arch/omraan.htm) وأرسلت صفحاتها لبعض الأصدقاء العرب في دول الجوار ومنهم صديق عماني مثقف عالي الثقافة يهوى الفن الإسلامي والعمارة فراعه ما رأى من عناية بالمعنى والمبنى فأرسل إلي رسالة متعجبا وقال: عجبا لهؤلاء القوم بفلسطين وهم تحت ظروف المعاناة ينتجون إنتاجاً كهذا؟ ولم يجانب صديقي الصواب، فالعجب كل العجب لهذا الرمز الفلسطيني المشرق!

رمز فلسطيني آخر يتجسد في مركز حضاري وفكري، أنتجته المعاناة في ظلال هجمة استعمارية وحضارية للنيل من هوية وتراث الأمة الفلسطينية، هو مركز عمارة التراث بالجامعة الإسلامية بغزة. وتأتي أهمية هذا الصرح الحضاري في مجال المحافظة على التراث الفلسطيني في غياب الجهود الوطنية الفاعلة للحفاظ على ما تبقى من التراث العمراني الذي تتهدده سياسات التهويد الإسرائيلية وماكينة التدمير الممنهجة التي شجعت خلال العقود الماضية على تنمية مواهب شبكات التهريب المحلية والعالمية لنقل ممتلكات الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية لمتاحف العالم بأبخس الأثمان. ومن هنا يعد مركز عمارة التراث (http://www.iugaza.edu/cah/) من المراكز المهمة في مجال الحفاظ على الآثار في قطاع غزة، وهو ثمرة طيبة مباركة لجهود القائمين على الفكر والثقافة بالجامعة بدءا من رئيسها الدكتور كمالين شعث، وعميد كلية الهندسة الدكتور عدنان إنشاصي، وجهود الأفاضل في قسم العمارة. ومؤخرا تم التنسيق بين القسم وبين وزارة الثقافة بالتوقيع على اتفاقية لإنشاء متحف العمارة والتراث سعيا للجهود الرامية للمحافظة على ما تبقى من التراث الفلسطيني وتوثيقه.
ويهدف مركز عمارة التراث إلى إبراز التراث المعماري لمدينة غزة، وتوثيق المباني و المواقع الأثرية، وخدمة الباحثين في مجال التراث المعماري لمدينة غزة عبر تزويدهم بالمعلومات اللازمة، والاتصال بالمؤسسات المحلية والدولية وتفعيل التعاون معهم للحفاظ على التراث المعماري الفلسطيني، وتوعية المجتمع المحلي والخارجي بأهم المعالم الأثرية في قطاع غزة وأهمية المحافظة عليها، ونشر الأبحاث والمواد المتعلقة بالتراث وتكوين مكتبة الكترونية تساعد الباحثين، وإقامة المعارض والندوات والدورات التدريبية ذات العلاقة بعمارة التراث، ونشر الصور والمواد الإعلامية ذات العلاقة بالمباني والمواقع الأثرية.
وفي إطار جهود القائمين عليه، حيث تعاقب على إدارته باحثون أفاضل بدءا من المعماري الدكتور أحمد المحيسن والمعماري حسام الدين داود، أقام المركز مؤتمرا دوليا للحفاظ في نيسان (إبريل) الماضي قدمت فيه أوراق مهمة تعكس جهودا تستحق الثناء في آخر تكنولوجيا المسح والتوثيق بتوظيف الكمبيوتر.

هذان رمزان مشرقان للثقافة والكفاح الفلسطيني من الرموز التي لا تأبه لما يحيط بها من إرهاصات، وجب التوقف عندها قليلا وإعطاؤها بعض ما تستحق من الثناء والذكر في إطار عرفان بقيامهما بدور حضاري قيم، وبخاصة في رفد الفن والتراث والإبداع والقيام من خلال الموارد المتوفرة وعلى شحها بمشروع وطني وجب القيام به لحفظ تراث الأمة وفلسطين في وقت تزداد فيه موجة التهويد والتغييب شراسة، فألف تحية لمجلة العمران ولمركز عمارة التراث بالجامعة الإسلامية بغزة!

x